فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بدائع وروائع من مدارج السالكين:

منزلة المحبة:
وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون وإليها شخص العاملون وإلى علمها شمر السابقون وعليها تفانى المحبون وبروح نسيمها تروح العابدون فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات والشقاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب فيالها من نعمة على المحبين سابغة تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون:
من لي بمثل سيرك المدلل ** تمشي رويدا وتجي في الأول

أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم حي على الفلاح وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضى والسماح وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم وشكروا مولاهم على ما أعطاهم وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ}.
{وَ} لكن: {مِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا} أي: أمثالًا. مع أن الآيات منعت من أن يكون له ندّ واحد فضلًا عن جماعتها يسوّون بينهم وبين الله إذ: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} أي: يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له. والأنداد هي: إما الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا منها النفع والضرّ، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور وقرّبوا لها القرابين. وإمّا الرؤساء الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، لاسيما في الأوامر والنواهي، ورجح هذا؛ لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أندادًا، وأمثالًا لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى: {والذين آمنوا أشد حبًا لله} من المشركين لأندادهم، لأنّ أولئك اشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلّها لله، ولأنهم يعلمون أن جميع الكمالات له ومنه، ولأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره، بخلاف المشركين فكانوا يعبدون الصنم زمانًا ثم يرفضونه إلى غيره أو يأكلونه، كما أكلت باهلة إلهها من حيسٍ، عام المجاعة.

.قال ابن القيم في شرح المنازل في باب التوبة:

أما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو أن يتخذ من دون الله ندًّا يحبه كما يحب الله تعالى، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98] مع إقرارهم بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تميت ولا تحيي، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة، والتعظيم، والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم..! بل كلهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوادونها من دون الله تعالى..! وكثير منهم- بل أكثرهم- يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله تعالى..! ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله تعالى..! ويغضبون بتنقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ما يغضبون إذا انتقص أحدٌ رب العالمين..! وإذا انتقصت حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث أو الكلب..! وإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يغضبوا لها. بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئًا رضوا عنه، ولم تنكر له قلوبهم..! قد شاهدنا نحن وغيرنا هذا منهم. انتهى.
وقال الإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزيّ رحمه الله:
ومن أجلّ الشرك، وأصله الشرك في محبة الله، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] الآية، فأخبر سبحانه أن من أحب مع الله شيئًا غيره، كما يحبه، فقد اتخذ ندًّا من دونه! وهذا على أصح القولين في الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، والمعنى على أصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة، وكذلك قوله المشركين في النار لأصنامهم: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98]، ومعلوم قطعًا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونهم خالقيهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرّين بأن الله تعالى وحده هو رَبُّهم وخالقهم، وأنّ الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه ربّ السموات وربُّ العرش العظيم، وأنّه هو الذي بيده ملكوت كلّ شيء، وهو يجير ولا يجار عليه.... وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبّة والعبادة، فمن أحبّ غير الله تعالى، وخافه، ورجاه، وذلّ له كما يحبّ الله ويخافه ويرجوه فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى...! فعياذًا بالله! من أنْ ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام، كانسلاخ الحيّة من قِشرها، وهو يظن أنّه مسلم موحدٌ...!
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه:
والمتّخذ إلهه هواه، له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، ومحبّة عُبّاد العجل له، وهذه محبّة مع الله لا محبّة لله! وهذه محبّة أهل الشرك...! والنفوس قد تدّعي محبّة الله، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه، وقد أشركته في الحب مع الله! وقد يخفى الهوى على النفس، فإن حبك الشيء يعمي وبصمّ..! وهكذا الأعمال التي يظنّ الْإِنْسَاْن أنه يعملها لله وفي نفسه شرك قد خفي عليه وهو يعلمه، إما لحبّ رياسة، وإمّا لحبّ مال، وإما لحبّ صورة...!.
ولهذا قالوا: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعةً وحميّةً ورياءً، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله...! فلمّا صار كثير من الصوفية النسّاك المتأخّرين يدّعون المحبّة- ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسُّنة- دخل فيها نوعٌ من الشرك واتّباع الأهواء، والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله؛ فقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عِمْرَان: 31]، وهذا، لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبّه الله، وليس شيء يحبّه الله إلا والرسول يدعو إليه...! وليس شيءٌ يدعو إليه الرسول إلاّ والله يحبه...! فصار محبوب الربّ ومَدَعُوُّ الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإنْ تنوعت الصفات...!. انتهى.
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} المعد لهم يوم القيامة: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} أي: القدرة كلها لله، على كل شيء، من العقاب والثواب، دون أندادهم: {وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} أي: العقاب للظالمين. وفائدة عطفها على ما قبلها: المبالغة في تهويل الخطب، وتفظيع الأمر؛ فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدّة العذاب، لجواز تركه عفوًا مع القدرة عليه. وجواب لو: محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، إما لعدم الإحاطة بكنهه، وإما لضيق العبارة عنه، وإمّا لإيجاب ذكره ما لا يستطيعه المعبّر أو المستمع من الضجر والتفجّع عليه؛ أي: لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم. ونظيره- في حذف الجواب- قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ} [الأنعام: 27] وقولهم: لو رأيت فلانًا والسياط تأحذه. وقرئ: {وَلَوْ تَرَى} بالتاء على خطاب الرسول أو كلّ مخاطب؛ أي: ولو ترى ذلك لرأيت أمرًا عظيمًا في الفظاعة والهول. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}.
الند هو الشبيه والنظير، والكافر هو من يجعل لله شبيها ونظيرا، والمشركون لا يخلون الله عن الألوهية، إنما يشركون معه غيره أندادا، وهم يحبون هؤلاء الأنداد كحبهم لله، أو يحبونهم كحبكم أنتم لله، فكما يحب المؤمن ربه، يحب الكافر إلهه الذي اتخذه معبودًا.
{والذين آمنوا أشد حبا لله} لماذا؟. لأن هذا هو الحب الذي لا يختلف عليه أحد، ولكن حب هؤلاء المشركين للآلهة المتعددة المزيفة يختلف؛ فعندما يمس المشرك الضر يضرع إلى الله وليس إلى الآلهة المزيفة، مصداقا لقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} من الآية 12 سورة يونس.
إن المشرك يكتشف بفطرته كذبه على نفسه في مسألة اتخاذه أندادا لله، ولذلك إذا عزت عليه الأسباب، ووقع في مأزق فهو لا يخدع نفسه ويقول: يا صنم أنجدني: وإنما يقول: يا رب أنقذني.
أما المؤمن فهو لا يغير حبه لله أبدًا، المؤمن يحب ربه في السراء والضراء، وعلى ذلك يكون الذين آمنوا أشد حبًا لله، لأنهم لا ينسونه، لا في الرخاء ولا في الشدة لكن الكافرين لا يعرفون الله الحق إلا في الشدائد، فإذا مرت المسألة فإنهم يسلكون كما يصف القرآن سلوك كل كافر منهم: {مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} من الآية 12 سورة يونس. {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} من الآية 8 سورة الزمر.
إنهم ينسون الله، ويعودون إلى تقديس الأنداد المزيفة، وهم بذلك يظلمون أنفسهم.
{ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب} ويفاجأ هؤلاء المشركون بأمر عجيب لم يكن في حسبانهم، هم آمنوا بأنداد ويأتون يوم القيامة ليروا تلك الأنداد وهي وقود للنار تعذبهم، ولو لم تأت معهم حجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها لقالوا: إن الحجارة ستجدنا من هذا العذاب.
وهاهو ذا الحق سبحانه يبين لهم: أن الحجارة ليست معكم في العذاب فقط، بل هي وقود النار التي تعذبون بها، ومصداقا لقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} من الآية 98 سورة الأنبياء.
وكذلك قوله الحق عن النار: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} من الآية 24 سورة البقرة.
وبذلك ينقطع عن الكافرين المشركين كل أمل في أن تنقذهم آلهتهم المزيفة.
{إذ يرون العذاب} أي يرون العذاب حق اليقين، وقد سبق أن أخبروا به، لكنهم لم يؤمنوا باليوم الآخر؛ لكن لو صدقوا بيوم القيامة وآمنوا لكفاهم أن يروا العذاب عين اليقين، ويختم الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب} أي أنهم ساعة يرون العذاب حق اليقين سيدركون عندها أن القوة لله وأنه شديد العقاب.
ثم يبين الحق سبحانه وتعالى ماذا سيكون حالهم عندما يرون العذاب، فيقول: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166)}. اهـ.

.موعظة: روض نفسك:

يا هذا: طهر قلبك من الشوائب فالمحبة لا تلقى إلا في قلب طاهر إما رأيت الزارع يتخير الأرض الطيبة ويسقيها ويرويها ثم يثيرها ويقلبها وكلما رأى حجرا ألقاه وكلما شاهد ما يؤذي نحاه ثم يلقي فيها البذر ويتعاهدها من طوارق الأذى؟ وكذلك الحق عز وجل إذا أراد عبدا لوداده حصد من قلبه شوك الشرك وطهره من أوساخ الرياء والشك ثم يسقيه ماء التوبة والإنابة ويثيره بمسحأة الخوف والإخلاص فيستوي ظاهره وباطنه في التقى ثم يلقي فيه بذر الهدى فيثمر حب المحبة فحينئذ تحمد المعرفة وطنا ظاهرا وقوتا طاهرا فيسكن لب القلب ويثبت به سلطانها في رستاق البذر فيسري من بركاتها إلى العين ما يفضها عن سوى المحبوب وإلى الكف ما يكفها عن المطلوب وإلى اللسان ما يحبسه عن فضول الكلام وإلى القدم ما يمنعه من سرعة الإقدام فما زالت تلك النفس الطاهرة رائضها العلم ونديمها الحلم وسجنها الخوف وميدانها الرجاء وبستانها الخلوة وكنزها القناعة وبضاعتها اليقين ومركبها الزهد وطعامها الفكر وحلواها الأنس وهي مشغولة بتوطئة رحلها لرحيلها وعين أملها ناظرة إلى سبيها فإن صعد حافظاها فالصحيفة نقية وإن جاء البلاء فالنفس صابرة تقية وإن أقبل الموت وجدها من الغش خلية فيا طوبى لها إذا نوديت يوم القيامة: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربكراضية مرضية}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}.
قوله تعالى: {مَنْ يَتَّخِذُ} {مَنْ}: في محلِّ رفع بالابتداء، وخبره الجارُّ قبله، ويجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون موصولةً.
والثاني: أن تكون موصوفةً.
فعلى الأوَّل: لا محلَّ للجملة بعدها.
وعلى الثاني: محلُّها الرَّفع، أي: فريقٌ، أو شخصٌ متَّخذٌ، وأفرد الضمير في {يَتَّخِذُ}؛ حملًا على لفظ {مَنْ} و{يَتَّخِذُ}: يفتعل، من الأَخْذ، وهي متعدِّية إلى واحد، وهو {أندادًا}.
قوله تعالى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: متعلِّق ب {يَتَّخِدُ}، والمرابد ب {دُونِ} هنا غَيْرَ.
وأصلها إذا قلت: اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقًا، أصله: اتخذت من جهةٍ ومكانٍ دون جهتك، ومكانك صديقًا، فهو ظرف مجازيٌّ، وأذا كان المكان المتَّخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطَّةً عنه، ودونه؟ لزم أن يكون غيرًا، لأنه ليس إيَّاه، ثم حُذِف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، مع كونه غيرًا، فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق، لا بطريق الوضع لغةً، وتقدَّم تقرير شيء من هذا أوَّل السُّورة.
قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ} في هذ الجملة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون في محلِّ رفع؛ صفة ل {مِنْ} في أحد وجهيها، والضمير المرفوع يعود عليها؛ باعتبار المعنى، بعد باعتبار اللَّفظ في {يَتَّخِذُ}.
والثاني: أن تكون في محلِّ نصبٍ؛ صفةً ل {أَنْدَادًا}، والضمير المنصوب يعود عليهم، والمراد بهم الأصنام؛ وإنَّما جمعوا جمع العقلاء؛ لمعاملتهم له معاملة العقلاء، أو يكون المراد بهم: من عبد من دون الله من العقلاء وغيره، ثم غلب العقلاء على غيرهم.
قال ابْنُ كَيْسَانَ، والزَّجَّاجُ: معناه: كَحُبِّ اللَّه، أي: يسوُّون بين الأصنام وبين الله تبارك وتعالى في المحبَّة.
قال أبو إسْحَاقَ: وهذا القول الصحيح؛ ويدلُّ عليه قوله: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ} نقله القرطبيُّ.
الثالث: أن تكون في محل نصب على الحال مِنَ الضَّمير في {يَتَّخِذُ}، والضمير المرفُوع عائدٌ على ما عاد عليه الضَّمير في {يَتَّخِذُ}، وجُمِعَ حملًا على المعنى؛ كما تقدَّم.
قال ابن الخطيب رحمه الله تعالى: في الآية حَذْفٌ، أي: يُحبُّونَ عبادَتَهُمْ، والانقياد إليهم.
قوله تعالى: {كَحُبِّ الله} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ، أي: يحبُّونَهُمْ حُبًّا كَحُبِّ اللَّه، وأمَّا عل الحال من المَصدر المعرَّف؛ كما تقرَّر غير مَرَّة، والحُبُّ: إرادة ما تَاهُ وتظنُّه خيرًا، وأصله من: حَبَبْتُ فُلانًا: أصبحتُ حَبَّةَ قَلْبِهِ؛ نحو: كَبِدتُهُ، وأَحْبَبْتُهُ: جعلت قَلْبِي مُعرَّضًا بأنْ يُحِبَّهُ، لكن أكثر الاستعمال أنْ يقال: أَحْبَبْتُهُ، فهو مَحْبُوبٌ، وَمُحَبٌّ قليلٌ؛ كقول القائل: الكامل:
وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ** مِنِّي بمَنزِلَةِ المُحَبِّ الْمُكْرَمِ

والحُبُّ في الأصل: مصدرُ حَبَّهُ وكان قياسه فتح الحاء، ومضارعُهُ يَحُبُّ بالضم، وهو قياس فعل المضعَّف، وشَذَّ كسره، ومَحْبُوب أكثر مِنْ مُحَبٍّ، ومُحَبٌّ أكثر من حَابٍّ وقد جمع الحُبُّ؛ لاختلاف أنواعه؛ قال: الطويل:
ثَلًاثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبٌّ عَلاَقَةٌ ** وَحُبٌّ تِمِلاَّقٌ وَحُبٌّ هُوَ الْقَتْلُ

والحُبُّ مصدرٌ لمنصُوبِهِ، والفاعلُ محذوفٌ، تقديرُه، كحُبِّهِمْ الله أو كَحُبِّ المؤمنين اللَّهِ؛ بمعنى: أنَّهم سَوَّوا بين الحُبَّيْن: حبِّ الأنداد، وحُبِّ الله.
وقال ابن عطيَّة: حُبّ: مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللَّفْظ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعل المُضمرِ، يريدُ به: أنَّ ذلك تقديرُه: كَحُبِّكُمُ اللَّهَ أو كَحُبِّهِمُ اللَّهَ، حَسبما قدَّرَ كُلَّ وَجهٍ منهما فرقَةٌ. انتهى.
وقوله: للفاعل المُضْمر يريدُ به أنَّ ذلك الفاعل منْ جنس الضمائرِ، وهو كم أو هم أو يُسَمَّى الحذف إضمارًا وهو اصطلاحٌ شائعٌ ولا يريد أنَّ الفاعل مُضْمر في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعال؛ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضهم؛ مردُودٌ بأن المصدر اسم جنسٍ واسمُ الجنس لا يُضمرُ فيه لجمودِهِ.
وقال الزمخشريُّ: {كَحُبِّ اللَّهِ} كتعظيم الله، والخُضُوع، أي: كا يُحَبُّ اللَّهُ؛ عليه أنه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعول، وإنما استُغنِيَ عن ذكرِ من يُحِبُّهُ؛ لأنه غير مُلتبسٍ. انتهى.
أما جعلُهُ المصْدر من المبنيِّ للمفعول، فهو أحد ألأقوَالِ الثلاثة؛ أعني: الجوازَ مُطْلَقًا.
والثاني: المَنْعُ مُطْلَقًا: وهو الصحيحُ.
والثالث: التفصيلُ بين الأفعال التي لم تُستَعْمل إلاَّ مَبْنِيَّةً للمفعول، فيجوز؛ نحو: عَجِبْتُ مِنْ جُنُونِ زيد بالعلم، ومنه الآية الكريمةُ؛ فإنَّ الغالب من حُبّ أنْ يبنَى للمفعول وبيْنَ غيرها، فلا يجوزُ، واستدلَّ مَنْ أجازهُ مطْلقًا بقَول عائشة- رضي الله تعالى عنها- نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وشَرَّف، وكرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل وَعَظَّم- عن قَتْل الأبتر، وَذُوا الطُّفيتين برفع ذو؛ عَطْفًا على محل الأبتر لأنَّه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله تقديرًا، أي أنْ يُقْتَلَ الأَبتَرُ، ولتَقرير هذه الأقوال موضعٌ غير هذا.
وقد رد الزَّجَّاجُ تقدير مَنْ قدَّر فاعل المصدر المُؤْمنِينَ أو ضميرهم.
وقال: لَيْسَ بشَيْءٍ والدليلُ على نقضه قوله بَعْدُ: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ} ورجَّح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتَّخذين، أي: يحبُّون الأصنام، كما يُحبُّون الله؛ لأنَّهم اشركوها مع الله، فَسَوَّوْا بين الله تعالى، وبين أوثانهم في المَحَبَّة، وهذا الذي قاله الزَّجَّاجُ واضحٌ؛ لأن التسوية بين محبَّة الكفَّار لأَوثانهم، وبن محبَّة المؤمنين لله يُنَافِي قوله: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ} فإنَّ فيه نَفْيَ المُسَاواة.
وقرأ أبو رجاء: {يَحُبُّونَهُمْ} بفتح الياء من حَبَّ ثلاثيًّا، وأَحَبَّ أكثر، وفي المَثَل: مَنْ حَبَّ طَبَّ.
قوله تعالى: {أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}: المُفضَّلُ عليه محذوفٌ وهم المُتَّخِذُون الأندادَ، أي: أشدُّ حُبًّا لله من المُتَّخِذِين الأنْدادَ لأوثانهم؛ وقال أبو البقاء: ما يتعلَّق به {أَشَدُّ} محذوفٌ، تقديره: أشَدُّ حُبًّا للَّهِ مِنْ حُبِّ هؤلاء للأنداد، والمعنى: أنَّ المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر من محبَّة هؤلاء أوثَانَهُمْ، ويحتمل أن يكون المعنى: أن المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر ممَّا يحبُّه هؤلاء المتَّخذون الأنداد؛ لأنهم لم يُشْرِكُوا معه غيره، وأتى ب {أشَدُّ} موصِّلًا بها إلى أفعل التَّفضيل من مَادَّة الحُبِّ؛ لأنَّ حُبَّ مبنيٌّ للمفعول، والمبنيُّ للمفعول لا يُتعجَّب منه، ولا يبنى منه أَفْعَل للتَّفضيلِ؛ فلذلك أتى بما يجوز فيه ذلك.
فأمَّا قوله: مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ فساذٌّ على خلافٍ في ذلك، و{حُبًّا} تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ، تقديره: حُبُّهُمْ لِلَّهِ أشدٌّ.
قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا} جواب {لَوْ} محذوفٌ، واختلف في تقديره، ولا يظهر ذلك إلاَّ بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة.
قرأ عامر ونافعٌ: {وَلَو تَرَى} بتاء الخطاب، {أنَّ القُوَّة} و{أَنَّ اللَّهَ} بفتحهما.
وقرأ ابن عامر: {إِذْ يُرَوْنَ} بضم الياء، والباقون بفتحها.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو والكوفيون: {وَلَوَ يَرَى} بياء الغَيْبَة، {أنَّ القُوَّة}، {أَنَّ اللَّهَ} بفتحهما.
وقرأ الحسن، وقتادة وشيبة، ويعقوب، وأبو جعفر: {وَلَوْ تَرَى} بتاء الخطاب، {إَنَّ القُوَّةَ}، و{إِنَّ اللَّهِ} بكسرهما.
وقرا طائفةٌ: {وَلَوْ يَرَى} بياء الغيبة {إِنَّ القُوَّة} و{إِنَّ اللَّهِ} بكسرهما.
إذا تقرَّر ذلك، فقد اختلفوا في تقدير جواب {لَوْ}.
فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قوله: {أَنَّ القُوَّةَ} ومنهم مَنْ قَدَّره بعد قوله: {وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب} هو قول أبي الحسن الأخفش. المُبرِّد أمَّا مَنْ قدَّره قبل: {أَنَّ القوَّة} فيكون {أَنَّ الْقوةَ} معمولًا لذلك الجواب وتقديره على قراءة {تَرَى} بالخطاب وفَتح {أنَّ} و{أنَّ}: لَعَلِمْتَ، أَيها السَّامعُ، {أنَّ القُوَّةَ للَّهِ جميعًا} والمراد بهذا الخطاب: إِمَّا النبيُّ- عليه الصَّلاة والسَّلام- وإمَّا: كُلُّ سامع، فيكون معناه: ولو تَرَى يا محمَّدُ، أو يا أيُّها السَّامعُ، الَّذين ظَلَمُوا، يعني: أشركوا، في شدَّة العذاب لرأيت أمرًا عظيمًا وقيل: معناه: قُلْ، يا محمَّد، أيُّها الظالم، لو تَرَى الَّذِين ظَلَمُوا من شدَّةِ العذابِ، لرأيتَ أمرًا فظيعًا.
وعلى قراءة الكَسرَ في {إِنَّ} يَكُونُ التقديرُ: لَقُلْتَ إِنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، والخلافُ في المراد من الخطاب كما تقدَّم، أو يكون التقدير: لاَسْتَعْظَمْتَ حَالَهُمْ، وإنما كُسِرَتُ {إِنَّ}؛ لأنَّ فيها معنى التلعيل؛ نحو قولك: لو قَدِمْتَ على زيدٍ، لأَحْسَن إلَيك؛ إنَّه مُكْرِمٌ لِلضِّيفَانِ فقولُك: إِنَّهُ مُكْرمُ لِلضِّيفَانِ علَّةٌ لقولك: أَحْسَنَ إِلَيْكَ وقال ابن عطيَّة: تقديره: وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ في حَال رُؤيتِهِم العذابَ وفَزَعهمْ منْه، واسْتِعْظَامِهِمْ له، لأقَرُّوا أنَّ لِلَّهِ جمِيعًا.
وناقشه أبو حَيَّان، فقال: كانَ يَنْبغي أنْ يقول: فِي وقْتِ رُؤْيتهم العذابَ فيأتي بمرادف {إِذْ} وهو الوَقْت لا الحَالُ وأيضًا: فتقديرُه لجَوابِ {لو} غيْر مُرتَّبٍ على ما يلي {لَوْ}؛ لأن رؤية السَّامع أو النبيِّ- علَيْه الصَّلاة والسَّلام- الظَّالمين في وقت رُؤيتهِمْ لا يترتَّب عليها إقْرَارُهُمْ بأنَّ القوَّة لله جميعًا؛ وهو نظيرُ قولك: يَا زيَدُ، لَوْ تَرَى عَمْرًا فِي وَقْتِ ضَرْبِهِ، لأَقرَّ أَنَّ الله- تعالى- قادِرٌ عَلَيْهِ.
فإقرارُهُ بقُدْرة اله تعالى ليسَ مترتِّبًا على رؤية زيدٍ. انتهى.
وتقديره على قراءة {يَرَى} بالغيبة: لَعَلِمُوا أنَّ القُوَّة لِلَّهِ إن كان فاعلُ {يَرَى}: الَّذِينَ ظَلَمُوا، وإنء كان ضميرًا يَعْودُ على السَّامع، فيقدَّر: لَعَلِمَ أنَّ القُوَّة.
وأمَّا مَنْ قدَّره بعد قوله: {شَدِيد العَذَابِ}، فتقديره على قراءة {تَرَى} بالخطاب: لاَسْتَعْظَمْتَ مَا حَل بِهِمْ ويكون فَتْح أَنَّ على أَنَّهُ مفعولٌ مِنْ أجله، أي: لأَنَّ القوَّةَ للَّهِ جميعًا وكسْرُها على معنى التلعيل؛ نحو: أَكْرِمْ زيْدًا؛ إنَّه عالمٌ، وأَهِنْ عَمْرًا؛ إِنَّهُ جَاهِلٌ أو تكون جملة فاعلُ {يَرَى} ضمير السَّامع: لاَسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وإِنْ كان فاعلُهُ الَّذينَ، كان التقديرُ لاَسْتَعْظَمُوا مَا حَلَّ بِهِمْ ويكون فتح أَنَّ على أَنَّها معمولةٌ ل {يَرَى} على أن يكون الفاعل {الَّذِينَ ظَلَمُوا} والرؤية هنا تحتملُ أنْ تكُونَ من رُؤية القَلْب، فتسُدَّ {أَنَّ} مَسَدَّ مفعوليها، وأنْ تكُون مِنْ رؤية البَصَر، فتكون في موضع مفعول واحدٍ.
واَمَّا قراءة {يَرَى} الَّذِينَ بالغيبة، وكَسْر {إِنَّ} و{إِنَّ} فيكون الجواب قولًا محذوفًا، وكُسرَتَا لوقوعهما بعد القَوْل، فتقديرُه على كون الفاعل ضمير الرَّأي، لَقَالَ: {إِنَّ القُوَّةَ} وعلى كَونه {الَّذِينَ}: لَقَالُوا ويكون مفعول {يَرَى} محذوفًا، أي: لَوْ يَرَى حَالَهُمْ ويحتمل أنْ يكون الجواب: لاَسْتَعْظَمَ، أو لاسْتَعْظَمُوا على حسب القولين: وقدَّر بعضهم: {مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا} وإنَّما كُسِرَتَا؛ استئنافًا، وحَذُفُ جواب {لَوْ} شائعٌ مستفيضٌ كثيرٌ في التنزيل، قال تبارك وتعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت} [الأنعام: 93] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] ويقولون: لَوْ رَأَيْتَ فُلاَنًا، والسِّيَاطُ تَأخُذُ مِنْهُ قالوا: وهذا الحَذفُ أفخم وأشَدُ كلَّ مَذْهَب فيه؛ بخلاف ما لو ذكر فإنَّ السامع يقصُرُ همَّه عليه، وقد وَرَد في أَشْعَارِهمْ ونَثْرِهِمْ كثيرًا؛ قال امرُؤُ القَيْسِ: الطويل:
وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ** سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا

وقال النَّابغة: الطويل:
فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا ** أَبُوا حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ

ودخلت {إِذْ}، وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناء هذه المستقبلات تقريبًا للأمر، وتصحيحًا لوقوعه؛ كما وقعت صيغة المُضِيِّ موضع المستقبلِ لذلك؛ كقوله: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة} [الأعراف: 50].
وكما قال الأشتر: الكامل:
بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنْ العُلاَ ** وَلَقيْتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبوسِ

إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً ** لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِنْ نِهَابِ نُفُوسِ

فأوقع بَقَّيْتُ وانْحَرَفْتُ- وهما بصيغة المضيِّ- موقع المستقبل، لتعليقهما على مستقبلٍ، وهو قوله: إنْ لم أشنَّ.
وجاء في التنزيل كثيرُ مِنْ هذا الباب قال تبارك وتعالى:
{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} [الأنعام: 27] {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} [سبأ: 51] ولما كان وقوعُ السَّاعةَ قريبًا، أجْرَاه مجرَى ما حَصَل ووضع، مِنْ ذلك قولُ المُؤَذِّن: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَة، يقوله قبل إيقَاعِ التَّحْريم بالصَّلاَة؛ لقرب ذلك.
وقيل: أَوْقَعَ {إِذْ} موقع إذا؛ وقيل: زمن الآخر متصلٌ بزمن الدنيا، فقام أحدهما مقام الآخر؛ لأنَّ المجاور للشَّيء يقوم مَقَامه، وهكذا كُلُّ موضع وقع مثْلَ هذا، وهو في القرآن كثير.
وقرأ ابن عامر {يَرَوْنَ الْعَذَابَ} مبنيًّا للمفعول من أَرَيْتُ المنقولة مِنْ رَأَيْتُ بمعنى أبْصَرْتُ فتعدَّى لاثنين:
أولهما: قام مقام الفاعِلِ، وهو الواو.
والثاني: هو العذاب.
وقراءُ الباقين واضحة.
وقال الراغب: قوله: {أَنْ القُوَّةَ} بدلٌ من {الَّذِينَ} قال: وهو ضعيفٌ.
قال أبو حيَّان رحمه الله- ويَصيرُ المَعْنَى: ولو تَرَى قُوَّة اللَّهِ وقُدْرَتَهُ على الَّذين ظَلَمُوا.
وقال في المُنْتَخَب: قراءة الياء عند بعضهم أَوْلى من قراءة التَّاء؛ قال: لأَنَّ النبيَّ- عليه الصَّلاة والسَّلام- والمؤمِنِينَ قَدْ علِمُوا قدْرَ ما يُشَاهِدُه الكُفَّار، وأما الكُفَّار، فلم يعلَمُوه؛ فوجَبَ إسْنادُ الفِعل إِلَيْهِم وهذا أمر مردودٌ؛ فإن القراءتَيْن متواترتَانِ.
قوله تعالى: {جميعًا} حالٌ من الضَّمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور، والواقعِ خَبَرًا، لأنَّ تقديره: أّنَّ القُوَّة كائنةٌ لله جميعًا، ولا جائزٌ أنْ يكونَ حالًا منَ القُوَّة؛ فإن العامل في الحال، هو العامل في صاحبها، وأَنَّ لا تعمَلُ في الحال، وهذا مشكل؛ فإنهم أجازوا في ليت أن تعمل في الحال، وكذا كان؛ لِمَا فيها من معنى الفعل- وهو التمنِّي والتَّشْبيهُ- فكان ينبغي أن يجوز ذلك في أَنَّ لما فيها مَعْنَى التَأْكِيد.
وجَمِيعُ في الأصل: فَعِيلٌ من الجمع، وكأنه اسم جمع؛ فلذلك يتبع تارةً بالمُفرد؛ قال تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] وتارة بالجَمع؛ قال تعالى: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] وينتصب حالًا، ويؤكَّد به؛ بمعنى: كل ويدلُّ على الشمول؛ كدلالة كل، ولا دلالة له على الاجتماع في الزَّمان، تقول: جاءَ القَوْمُ جَمِيعُهُمْ لا يلزمُ أنْ يكُونَ مجئيهم في زمن واحدٍ، وقد تقدَّم ذلك في الفَرْق بينهما وبين جاءُوا معًا. اهـ. باختصار.